فَضِيلَةُ الْمُرَاقَبَةِ
رُوِيَ أَنَّ «جِبْرِيلَ» عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ
النَّبِيَّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَنِ الْإِحْسَانِ فَقَالَ : «أَنْ تَعْبُدَ
اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى : (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) [الرَّعْدِ
: 33] وَقَالَ تَعَالَى : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) [الْعَلَقِ :
14] وَقَالَ تَعَالَى : (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النِّسَاءِ :
1] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ) [الْمَعَارِجِ : 32 وَ 33] وَسُئِلَ
بَعْضُهُمْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ
لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [الْبَيِّنَةِ : 8] فَقَالَ : مَعْنَاهُ : ذَلِكَ لِمَنْ رَاقَبَ
رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَحَاسَبَ نَفْسَهُ وَتَزَوَّدَ لِمَعَادِهِ . وَقَالَ رَجُلٌ
«للجنيد» : بِمَ أَسْتَعِينُ عَلَى غَضِّ الْبَصَرِ ؟ فَقَالَ : «بِعِلْمِكَ أَنَّ
نَظَرَ النَّاظِرِ إِلَيْكَ أَسْبَقُ مِنْ نَظَرِكَ إِلَى الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ»
.
حَقِيقَةُ الْمُرَاقَبَةِ
الْمُرَاقَبَةُ
هِيَ مُلَاحَظَةُ الرَّقِيبِ وَانْصِرَافُ الْهَمِّ إِلَيْهِ ، وَيُعْنَى
بِهَا حَالَةٌ لِلْقَلْبِ يُثْمِرُهَا نَوْعٌ مِنَ الْمَعْرِفَةِ ،
وَتُثْمِرُ تِلْكَ الْحَالَةُ أَعْمَالًا فِي الْجَوَارِحِ وَفِي الْقَلْبِ
. أَمَّا الْحَالَةُ فَهِيَ مُرَاعَاةُ الْقَلْبِ لِلرَّقِيبِ
وَمُلَاحَظَتُهُ إِيَّاهُ ، وَأَمَّا الْمَعْرِفَةُ فَهِيَ الْعِلْمُ
بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى الضَّمَائِرِ ، عَالِمٌ بِالسَّرَائِرِ ، رَقِيبٌ
عَلَى أَعْمَالِ الْعِبَادِ ، قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ،
وَأَنَّ سِرَّ الْقَلْبِ فِي حَقِّهِ مَكْشُوفٌ كَمَا أَنَّ ظَاهِرَ
الْبَشَرَةِ لِلْخَلْقِ مَكْشُوفٌ .
ثُمَّ لِلْمُرَاقِبِ فِي أَعْمَالِهِ نَظَرَانِ :
نَظَرٌ قَبْلَ الْعَمَلِ ، وَنَظَرٌ فِي الْعَمَلِ ، أَمَّا قَبْلَ الْعَمَلِ
فَلْيَنْظُرْ هَمَّهُ وَحَرَكَتَهُ أَهِيَ لِلَّهِ خَاصَّةً أَوْ لِهَوَى
النَّفْسِ وَمُتَابَعَةِ الشَّيْطَانِ فَيَتَوَقَّفُ فِيهِ وَيَتَثَبَّتُ حَتَّى
يَنْكَشِفَ لَهُ ذَلِكَ بِنُورِ الْحَقِّ ، فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى
أَمْضَاهُ ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ اللَّهِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ وَانْكَفَّ
عَنْهُ ثُمَّ لَامَ نَفْسَهُ عَلَى رَغْبَتِهِ فِيهِ وَهَمِّهِ بِهِ وَمَيْلِهِ
إِلَيْهِ ، وَعَرَّفَهَا سُوءَ فِعْلِهَا وَأَنَّهَا عَدُوَّةُ نَفْسِهَا .
وَأَمَّا النَّظَرُ الثَّانِي لِلْمُرَاقَبَةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ
فَذَلِكَ بِتَفَقُّدِ كَيْفِيَّةِ الْعَمَلِ لِيَقْضِيَ حَقَّ اللَّهِ فِيهِ ،
وَيُحْسِنَ النِّيَّةَ فِي إِتْمَامِهِ ، وَيَتَعَاطَاهُ عَلَى أَكْمَلِ مَا
يُمْكِنُهُ .
وَهَذَا مُلَازِمٌ لَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ؛
لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي طَاعَةٍ أَوْ فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ
فِي مُبَاحٍ ، فَمُرَاقَبَتُهُ فِي الطَّاعَاتِ بِالْإِخْلَاصِ وَالْإِكْمَالِ
وَمُرَاعَاةِ الْأَدَبِ وَحِرَاسَتِهَا عَنِ الْآفَاتِ ، وَإِنْ كَانَ فِي
مَعْصِيَةٍ فَمُرَاقَبَتُهُ بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ وَالْإِقْلَاعِ
وَالْحَيَاءِ وَالِاشْتِغَالِ بِالتَّفْكِيرِ ، وَإِنْ كَانَ فِي مُبَاحٍ
فَمُرَاقَبَتُهُ بِمُرَاعَاةِ الْأَدَبِ ، ثُمَّ بِشُهُودِ الْمُنْعِمِ فِي
النِّعْمَةِ وَبِالشُّكْرِ عَلَيْهَا . وَلَا يَخْلُو الْعَبْدُ فِي جُمْلَةِ
أَحْوَالِهِ عَنْ بَلِيَّةٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَيْهَا ، وَنِعْمَةٍ
لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الشُّكْرِ عَلَيْهَا ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ .
بَلْ لَا يَنْفَكُّ الْعَبْدُ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ فَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى
عَلَيْهِ : إِمَّا فِعْلٍ يَلْزَمُهُ مُبَاشَرَتُهُ ، أَوْمَحْظُورٍ يَلْزَمُهُ
تَرْكُهُ ، أَوْ نَدْبٍ حَثَّ عَلَيْهِ لِيُسَارِعَ بِهِ إِلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ
تَعَالَى وَيُسَابِقَ بِهِ عِبَادَ اللَّهِ ، أَوْ مُبَاحٍ فِيهِ صَلَاحُ جِسْمِهِ
وَقَلْبِهِ وَفِيهِ عَوْنٌ لَهُ عَلَى طَاعَتِهِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ
حُدُودٌ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهَا بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ : (وَمَنْ
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطَّلَاقِ : 1] وَمَنْ كَانَ
فَارِغًا مِنَ الْفَرَائِضِ وَقَدَرَ عَلَى الْفَضَائِلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْتَمِسَ
أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ لِيَشْتَغِلَ بِهَا ، فَإِنَّ مَنْ فَاتَهُ مَزِيدُ رِبْحٍ
وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى دَرْكِهِ فَهُوَ مَغْبُونٌ ، وَالْأَرْبَاحُ تُنَالُ
بِمَزَايَا الْفَضَائِلِ
موعظة المؤمنين - (1 / 307)