Rabu, 21 November 2012

Kewajiban Murid dan Guru


ميزان العمل - (ج 1 )
بيان وظائف المتعلم والمعلم في العلوم المسعدة
 أما المعلم، فوظائفه كثيرة، وتجمع تفاصيلها عشر جمل. الوظيفة الأولى أن يقدم طهارة النفس عن رديء الأخلاق. فكما لا تصح عبادة الجوارح في الصلاة، إلا بطهارة الجوارح، والعلم عبادة النفس، وفي لسان الشرع عبادة القلب، فلا يصح إلا بطهارة القلب عن خبائث الأخلاق، وأنجاس الصفات. قال عليه السلام: " بني الدين على النظافة " . وهو كذلك باطناً كما أنه كذلك ظاهراً، وقال تعالى: (إنّما المشْرِكُونَ نَجَسٌ)، فنبّه به على أن الطهارة والنجاسة غير مقصورتين على الظاهر. ولذلك قال عليه السلام: " لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب " . والقلب منزل الملائكة، ومحل نظرهم ومصب أثرهم، والصفات الردية كلاب مانعة، ومهما اعتقد في بيت الدين صفات لا تساوي سائر الصفات المحمودة أولى، وبيت الدين هو القلب، وعليه تغلب الكلام مرة، والملائكة أخرى، فإن قلت: فكم طالب رديء الأخلاق، حصّل العلوم؟ فما أبعدك عن فهم العلم الحقيقي الديني، الجالب للسعادة. فما يحصّله صاحب الأخلاق الردية حديث ينظمه بلسانه مرة، وبقلبه أخرى، وكلام يردده، ولو ظهر نور العلم على قلبه، لحسنت أخلاقه، فإن أقل درجات العلم أن يعرف أن المعاصي سموم مهلكة، مبطلة للحياة الأبدية، فإن منشأها الصفات الردية. وهل رأيت من عرف السم فتناوله؟ ولهذا قال علي السلام: " من ازداد علماً ولم يزدد هدى، لم يزدد من الله إلا بعداً " . ولهذا قال بعض المحققين: معنى قولهم تعلمنا العلم لغير الله، فأبى العلم أن يكون إلا الله، أي العلم امتنع وأبى أن يحصل، وما حصل كان حديثاً ولم يكن علماً تحقيقياً. فإن قلت: إني أرى جماعة من فضلاء الفقهاء قد تبخروا فيها مع سوء أخلاقهم، فيقال لك: إذا عرفت مراتب العلوم ونسبتها إلى سلوك السعادة، عرفت أن ما يعرفه أولئك الفقهاء قليل الغناء في المقصود، وإن كان لا ينفك عن تعلق به في حق من يقصد به التقرب.
الوظيفة الثانية: أن يقلل علائقه من الأشغال الدنيوية، ويبعد عن الأهل والولد والوطن، فإن العلائق صارفة وشاغلة للقلوب، (مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجل مِنْ قَلبَين فِي جَوْفِهِ)، وكلما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق. ولهذا قيل: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإذا أعطيته كلك، فإنك من إعطائه إياك بعضه على خطر. والفكرة مهما توزعت على أمور، كانت كجدول ماؤه منكشف منبسط، فينشفه الهوى والأرض، ولا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ المزرعة وينتفع به.
الوظيفة الثالثة: أن لا يتكبر على العلم وأهله ولا يتآمر على المعلم، بل يلقي إليه بزمام أمره، في تفصيل طريق التعلم، ويذعن لنصحه إذعان المريض للطبيب. أما التكبر على العلم، فإنه يستنكف من استفادته ممن يعرفه، وهو عين الحمق، بل الحكمة ضالة كل حكيم. فحيث يجدها، ينبغي أن يغتنمها، ويستفيدها، ويتقلد بها المنة.
فَالعِلْمُ حَربٌ لِلفَتى المتَعَالِي ... كَالسَّيْل حَربٌ لِلمَكَانِ العَالِي
فلا بد من التواضع، ولذلك قال الله تعالى: (إنّ فِي ذَلك لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ ألقَى السَّمعَ وَهُوَ شَهِيد)، أي يكون مشتغلاً بالعلم، وهو المراد بمن له قلب، أو كان فيه من العقل ما يحمله على إلقاء السمع وحسن الإصغاء والضراعة. ومهما أشار المعلم في طريق التعلم بما يراه المتعلم عين الخطأ ويعتقده قطعاً، فليتهم نفسه وليصبر، وليتبع معلمه، فإن خطأ معلمه خير من صواب نفسه، كسالك الطريق يكون قد استفاد بالتجربة ما يتعجب المبتدئ منه. وعلى هذا نبّه الله تعالى في قصة الخضر وموسى فإنه قال: (هَل اتَّبعُكَ عَلى أن تُعَلِّمَنِ ممَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)، إلى قوله: (فَلاَ تَسْأَلْني عَنْ شيء حتى أحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً). ثم لم يصبر وراجعه وراده إلى أن قال: (هَذَا فِراقٌ بَيني وَبَينك). ثم نبّه على أسرار ما استبعده، كما ورد به القرآن، فعرف الله موسى أن العلم يعلم ما لا ينتهي إليه عقل المتعلم ووهمه.
وبالجملة فكل متعلم لم يتبع مراسم معلمه في طريق التعلم، فأحكم عليه بالإخفاق وقلة النجح، فإن قلت فقد قال الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذَّكْرِ إِنْ كُنْتُم لاَ تَعْلَمُون)، فاعلم أن هذا ليس مناقضاً لمنع موسى من السؤال، ولا لما ذكرناه، لأن النهي هو منع عن طلب، ما لم يبلغ إلى حدّ يدركه. فإذا منعه المعلّم من السؤال عنه، فليمتنع. والأمر هو حثّ على معرفة تفصيل ما تقتضيه رتبته من العلم.
الوظيفة الرابعة: إن الخائض في العلوم النظرية لا ينبغي أن يصغي أولاً إلى الاختلاف الواقع بين الفرق والشبه المشككة والمحيرة، ما لم يكن بعد تمهيد قوانينه. فإن ذلك يفتر عزمه في أصل العلم، ويؤيسه عن حقيقة الدرك، لأسباب ذكرناها في كتاب " معيار العلم " . فليتقن الأصول والرأي الذي اختاره استاذه وطريقه. ثم ليخض بعد ذلك في تعريف الشبه وتعقبها، ولهذا نهى الله تعالى من لم يقو في الإسلام عن مخالطة الكفار، حتى قيل كان أحد أسباب تحريم الخنزير ذلك، إذ كان أكثر أطعمة الكفار، فحرّم ذلك ليكون مزجرة للمسلمين عن مؤاكلتهم، التي كانت سبباً للمخالطة. ولهذا يجب صيانة العوام عن مجالس أهل الأهواء، كما يُصان الحرم عن مخالطة المفسدين. فأما من قويت في الدين شكيمته، واستقر في نفسه برهانه وحجته، فلا بأس عليه بالمخالطة، بل الأحب المخالطة والإصغاء إلى الشبه والاشتغال بحلّها، ويكون به مجاهداً. فإن القادر يستحب له التهجم على صف الكفار، والعاجز يكره له ذلك. ومن هذا الأصل غلط من ظنّ أن وظائف الضعفاء كوظائف الأقوياء في الدين، حتى قال بعض مشايخ الصوفية: من رآني في الابتداء قال صدّيقاً، ومن رآني في الانتهاء قال زنديقاً، يعني أن الابتداء يقتضي المجاهدة الظاهرة للأعين بكثرة العبادات، وفي الانتهاء يرجع العمل إلى الباطن، فيبقى القلب على الدوام في عين الشهود والحضور، وتسكن ظواهر الأعضاء، فيظن أن ذلك تهاون بالعبادات، هيهات! فذلك استغراق لمخّ العبادات ولبابها وغايتها، ولكن أعين الخفافيش تكلّ عن درك نور الشمس.
الوظيفة الخامسة: للمتعلم أن لا يدع فناً من فنون العلم، ونوعاً من أنواعه إلا وينظر فيه نظراً يطّلع به على غايته ومقصده وطريقه. ثم إن ساعده العمر وأتته الأسباب طلب التبحّر فيه، فإن العلوم كلها متعاونة مترابطة بعضها ببعض، ويستفيد منه في الحال حتى لا يكون معادياً لذلك العلم بسبب جهله به. فإن الناس أعداء ما جهلوا. قال تعالى: (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذا إفْكٌ قَدِيم)، قال الشاعر:
وَمَنْ يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَريضٍ ... يَجِدْ مُراً بِهِ المَاءُ الزُّلاَلاَ
فلا ينبغي أن يستهين بشيء من أنواع العلوم، بل ينبغي أن يحصّل كل علم ويعطيه حقه ومرتبته، فإن العلوم على درجاتها إما سالكة بالعبد إلى الله، أو معينة على أسباب السلوك، ولها منازل مرتبة في القرب والبعد من المقصد. والقوام بها حفظته كحفظة الرباطات والثغور على طريق الجهاد والحج، ولكل واحد منها رتبه.
الوظيفة السادسة: أن لا يخوض في فنون العلم دفعة، بل يراعي الترتيب، فيبدأ بالأهم فالأهم، ولا يخوض في فنّ حتى يستوفي الفن الذي قبله، فإن العلوم مرتبة ترتيباً ضرورياً وبعضها طريق إلى بعض. والموفق مراعي ذلك الترتيب والتدريج. قال تعالى: (الذينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَتْلُونَه حَقَّ تَلاَوَتِه)، أي لا يجاوزون فناً حتى يحكموه علماً وعملاً. وليكن قصده من كل علم يتحرّاه الترقي إلى ما فوقه. وينبغي أن لا تحكم على علم بالفساد لوقوع الاختلاف بين أصحابه فيه، ولا بخطأ واحد أو آحاد فيه، ولا بمخالفتهم موجب العلم بالعمل، فيرى جماعة تركوا النظر في العقليات والفقهيات، متعللين فيها بأنه لو كان لها أصل لأدركها أربابها. وقد مضى كشف هذه الشبهة في كتابنا " معيار العلم " ، ويرى قوم يعتقدون صحة النجوم لصواب اتفق لواحد، وطائفة يعتقدون بطلانه لخطأ اتفق لواحد، والكل خطأ. بل ينبغي أن يعرف الشيء في نفسه، فلا كل علم يستقل به كل شخص. ولذلك قال الإمام علي رضي الله تعالى عنه: " لا تعرف الحق بالرجال، إعرف الحق تعرف أهله " .
الوظيفة السابعة: إن العمر إذا لم يتسع لجميع العلوم، فينبغي أن يأخذ من كل شيء أحسنه، فيكتفي بشمة من كل علم، ويصرف الميسور من العمر إلى العلم الذي هو سبب النجاة والسعادة، وهو غاية جميع العلوم، وهي معرفة الله على الحقيقة والصدق. فالعلوم كلها خدم لهذا العلم، وهذا العلم حرّ لا يخدم غيره. ولهذا قال تعالى: (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُم فِي خَوْضِهِم يَلْعَبُون)، وليس المراد تحريك عضلات اللسان بهذه الحروف، ولذا قال: " من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة " ، فإن حركة الأطراف قليل الغناء، إذا لم يكن مؤثراً في القلب، أو لم يكن صادراً عن أثر راسخ في القلب، أو له اعتقاد يسمى إيماناً. ثم ينتهي ترتيبه إلى مثل إيمان أبي بكر، الذي وزن بإيمان العالمين لرجح. هذا مع التصريح بأنه ما فضلكم بكثرة صيام وصلاة ولكن بسرّ وقر في قلبه. فإن كان منتهى العلم بالله اعتقاد ما أعتقده المقلّد المتكلّم المتعلم بتحرير الدليل، فما عندي أن هذا يعجز عنه عمر وعثمان وكافة الصحابة، حتى كان قد فضلهم أبو بكر به.
وبهذا يستبين للمنصف أن طريق الصوفية، وإن كان يرى مائلاً عن أكثر الظواهر، فمشهود له من الشرع بشواهد قوية. فلا ينبغي أن يعاديها الجاهل لجهله وقصوره عنها. وعلى الجملة فمعرفة الله غاية كل معرفة، وثمرة كل علم، على المذاهب كلها. وقد روي أنه رؤي صورتا حكيمين من الحكماء المتعبدين في مسجد، وفي يد أحدهما رقعة فيها: " إن أحسنت إلى شيء، فلا تظنن أنك أحسنت شيئاً، حتى تعرف الله تعالى، وتعلم أنه مسبب الأسباب وموجد الأشياء " . وفي يد الآخر: " كنت قبل أن عرفت الله أشرب وأظمأ، حتى إذا عرفته رويت بلا شرب " .
الوظيفة الثامنة: أن تعرف معنى كون بعض العلوم أشرف من بعض فإن شرف العلم يدرك بشيئين: أحدهما بشرف ثمرته، والآخر بوثاقه دلالته. وذلك كعلم الدين وعلم الطب، الذي ثمرته حياة البدن إلى غاية الموت. وأما الحساب إذا أضفته إلى الطب، فالحساب أشرف باعتبار وثاقه دلالته، فإن العلوم بها ضرورية غير متوقفة على التجربة بخلاف الطب. والطب أشرف باعتبار ثمرته، فإن صحة البدن أشرف من معرفة كمية المقادير. والنظر إلى شرف الثمرة أولى من النظر إلى وثائقه الدليل. وأشرف العلوم ثمرة العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله وما يعين عليه، فإن ثمرته السعادة الأبدية.
الوظيفة التاسعة: أن تعرف أنواع العلوم بقول جملي، وهي ثلاثة: علم يتعلق باللفظ، من حيث يدل على المعنى، وعلم يتعلق بالمعنى المجرّد. أما المتعلق باللفظ، فهو ما عرف به المعاني بالحس وأريد أن تعرف الألفاظ الموضوعة بالاصطلاح للدلالة عليها وهي قسمان: أحدهما علم اللغات، والآخر لواحقها، كعلم الاشتقاق والإعراب والنحو والتصريف وعلم العروض والقوافي، وقد ينتهي إلى العلم بمخارج الحروف وما يتعلق به. وأما المتعلق بالمعنى من حيث يدل الفظ عليه، فعلم الجدل والمناظرة والبرهان والخطابة. فإن الناظر في هذه العلوم عالم باللغة وموجوب الألفاظ، وعالم بالمعاني، وعالم بترتيب إيرادها، وكيفية نظمها على وجه يؤدي إلى تحصيل العلم اليقيني، فيكون برهاناً، أو إلى إفحام الخصم فيكون جدلاً، أو إلى إقناع النفس الإقناع الذي يبتغي الاستدراج والمجادلة، فيسمى خطابة ووعظاً، ويسمى أيضاً دليلاً، فإنها تدل على المخاطبين على المقاصد، وتسوقهم إلى اعتقاداتهم، التي فيها نجاتهم. وعليه أكثر دلالات الأخبار والقرائن المستدل بها على الكفار. وهو أكثر أنواع الأدلة نفعاً، وأعمقها في حق الجماهير جدوى.
فأما البرهان الحقيقي اليقيني، فلا يستقل بفهمه ودركه إلا أكابر العلماء المحققين الذين لا تسمح الأعصار بآحادهم. وأما الجدل فأقل الأقسام فائدة في الإرشاد، إذ المحقق لا يقنع بما يبني دلالته على تسليم الخصم، وليس مسلماً في نفسه. والعامي لا يفهمه بل يكلّ فهمه عن دركه، والمشاغب المناظر في أكثر الأمر، إذا أفحم استمر على اعتقاده وأحال بالقصور على نفسه، وقال: لو كان صاحب مذهبي حياً وحاضراً، لقدر على الانفصال عنه، وأكثر ما ذكره المتكلمون في مناظراتهم مع الفرق جدليات، وهكذا ما يجري في مناظرات الفقه. ولذلك لا تنكشف مناظرة عن تنبه متنبه برجوعه عن مذهبه إلى غيره.
وأما القسم الثالث المتعلق بالمعنى، فضربان: علمي مجرد وعملي. أما العلمي فمعرفة الله تعالى ومعرفة الملائكة وملكوت السموات والأرض وآيات الآفاق والأنفس وما بث فيها من دابة، ومعرفة الكواكب السماوية والآثار العلوية، ومعرفة أقسام الموجودات كلها، وكيفية ترتب البعض منها على البعض، وكيفية ارتباط البعض منها بالبعض، وكيفية ارتباطها بالأول الحق المقدس عن الارتباط بغيره، ومعرفة القيامة والحشر والنشر والجنة والنار والصراط والميزان، ومعرفة الجن والشياطين، وتحقق أن ما سبق إلى الإفهام العامية من ظاهر هذه الألفاظ، حتى تخيلوا منها في الله تعالى أموراً، من كونه على العرش وفوق العالم بالمكان وقبله بالزمان، وما اعتقدوه في الملائكة والشياطين، وفي أحوال الآخرة من الجنة والنار، هل هي كما اعتقدوه من غير تفاوت، أو هي أمثلة وخيالات، ولها معان سوى المفهوم عن ظاهرها؟ فتحقق هذه الأمور بالصدق والحقيقة الصافية عن الشك، ورجم الظنون المنفكة عن المرية والتخمين، هي العلوم النظرية المجردة عن العمل. وأما العملي فهي الأحكام الشرعية، والعلوم الفقهية، والسنن النبوية. وذلك معرفة سياسة النفس مع الأخلاق كما مضى، ومعرفة تدبير أهل البيت والولد والمطعم والملبس. وكيفية المعيشة والمعاملة. وهذا علم الفقه، ويشتمل على ربع المعاملات والنكاح والعقوبات. ثم إذا عرف أنواعها، فينبغي أن يعرف مراتبها، كيلا يضيع العمر إلا في المقصود، أو فيما يقرب منه. وأما المقتنع بالقسم الأول المتعلق باللفظ، فمختصر على القشر المحض. والقانع منه بالنحو والإعراب والعروض ومخارج الحروف، فقانع أيضاً من القشرة بأوجهها. وأما الخائض في تعرف الطريق الذي به يتميز الدليل الحقيق عن الإقناع، فمشتغل بأمر مهم. فإن اقتصر عليه فهو مقتصر على الآلة والوسيلة، كمن يقصد الحج فيشتري الجمل ويعدّ الزاد والراحلة، ويقعد في بيته. فلذلك مهم وضروري لكونه آلة ضرورية، ولكن إذا لم يستعمل في المقصد، لا فائدة له. فلا خير في مجرد السلاح إذ لم يستعمل في القتال.
وأما الخائض في العلوم العملية المقتصر عليها، أعني الفقهيات وتفصيلها، فحالة أقرب من حال المقتصر على اللغات، فهو بالإضافة إليه عظيم القدر، كما أن العلم باللغات أيضاً بالإضافة إلى العلم بالرقص والزمّر عظيم، ولكن أن أضيف إلى جانب المقصود، فهو في غاية البعد ولا يتشكل ذلك إلا بمثال. فإذا علق السيد عتق عبده على أن يحج، ووعده بعد ذلك بما ينال به الرئاسة، فله ثلاث مقامات في الوصول إلى سعادة العتق وما بعده. الأول تهيئة الأسباب بشراء الناقة وخرز الرواية وإعداد الزاد، والآخر السلوك لمفارقة الوطن والتوجه إلى المقصد منزلاً بعد منزل، والثالث الاشتغال بالحج ركناً فركناً، ثم العتق معه، مع التعرض لاستحقاقه المال الموصل إلى السعادة، وله في كل مقام منازل من أول إعداد الأسباب إلى آخره، ومن أول سلوك الطريق إلى آخره. وليس قرب من ابتدأ بأركان الحج من السعادة كقرب من ابتدأ بالاستعداد، ولا كقرب من ابتدأ بالسلوك. فوازن الحج مما نحن فيه كمال النفس بطهارة الأخلاق، وقطع الرذائل كلها، وكمالها مع ذلك بانكشاف الحقائق لها. ومثال المال الموصل إلى الرئاسة ها هنا الموت، الذي يكشف الحجاب الحائل بينه وبين رتبة مشاهدة نفسه، وكمالها وجمالها، ليرى نفسه من الكمال في أعلى عليّين، فيفرح به ويسرّ سروراً مؤبداً. ومثال سلوك منازل الطريق منزلاً بعد منزل سلوك مهذّب الأخلاق في محو الأخلاق الرديئة عن نفسه خلقاً بعد خلق، وطالب العلوم النظرية التي ذكرناها دون سائر العلوم، الخادمة للعلوم النظرية من الفقهيات واللغويات. فالمتعلّم للفقه كالخارز للرواية، والمقتصر عليه كالمقتصر على الرواية، والمقتصر على اللغة كالمقتصر على دباغة الجلد، الذي يتخذ منه الرواية مثلاً، فإن الحاج لا يستغني عن الدباغ ومستغرق أوقاته بمعرفة تفريعات الفقه، على ما يشتمل عليه الخلافيات في هذا العصر، مما لم يعهد في عصر الصحابة، كمستغرق أوقاته في أحكام الرواية، بعد سلوك الخيوط التي يخرزها وتحسن الخرز.
فإن قلت: فهذا إن قلته عن اعتقاد فهو خلاف اجماع الفقهاء، وإن قلته حكاية، فمن المعتقد لهذا المذهب؟ فأقول: لست أقوله إلا حكاية عن هذا المذهب الذي مدار أكثر هذا الكتاب على وضعه، وهو مذهب التصوف. وقد اتفقوا على المعنى الذي يفهمه هذا المثال، وإن لم يكن هذا المثال بعينه من جهتهم. فإن قلت: فهل ما قالوه حق أم لا؟ فأقول ليس هذا الكتاب لبيان الحق والباطل بالبرهان في هذه الأمور، بل هي وصايا تنبّه على الغفلة وترشد إلى مواضع الطلب، كي لا يغفل الإنسان عمّا قالوه. فإن إمكانه ليس ببعيد في أول الأمر، فليبحث المتعلم المسترشد عنه ليعرف سره وغائلته. فإن قلت: إني وأن كنت لا أعتقد مذهب التصوف، فلا تسمح نفسي أيضاً بعد أن استغرقت عمري في الفقه خلافاً ومذهباً أن أنحط عند الصوفية إلى هذه الرتبة الخسيسة، فأرى بهذه العين، فلم قلت أن مذهبهم يوجب هذا؟ فاعلم إنك تتحقق السبب إن علمت تفاصيل ما سبق من ارتباط السعادة بمحو وإثبات عن النفس. وفيها، وأن المحو لما لا ينبغي أن يكون تزكية لها، والإثبات لما ينبغي أن يكون تكميلاً لها بكشف الحقائق فيها. وذلك لا يحصل إلا بتهذيب الأخلاق، والتفكر في آلاء الله وملكوت السموات والأرض، حتى تنكشف أسرارها. والفقه إنما يحتاج إليه من حيث أنه محتاج إليه البدن، والبدن لا يبقى إلا بعلم الأبدان، وهو الطب. وعلم الأديان، وهو الفقه، إذ الآدمي خلق بحيث لا يمكن أن يعيش وحده كالبهيمة الوحشية، بل يفتقر إلى أن يكون بين جمع متعاونين على أشغال كثيرة، في تهيئة المطاعم والملابس وآلاتهما، ولا بد إذ كان لهم اجتماع من أن يكون بينهم عدل وقانون في المعاملة، عليه يترددون، ولولاه لتنازعوا وتقاتلوا وهلكوا. فالفقه هو بيان ذلك القانون، وتفصيله في ربع النكاح والمعاملات والعقوبات، فالبدن في طريق السائرين إلى الله تعالى يجري مجرى الناقة الراوية في طريق الحج، ومصالح الأبدان كمصالح الناقة، والراوية والعلم والمتكفل بمصالح البدن كالصناعة المتكفلة بخرز الراوية وتقديرها وتطهيرها، ورتبته من هذا المقصد كرتبتها من ذلك المقصد إن صح ما ذكروه في السلوك والاستعداد والمقصد، وإنهم يقولون لولا إرادة الله عمارة الدنيا، لارتفعت الحجب وزالت الغفلة وتوجه الخلق كلهم إلى سبيل الله، وترك كل فريق ما هو بعيد عن المقصود، ولكن كل حزب بما لديهم فرحون، وبه قوام العالم، بل لولاه لبطلت الصناعات. فلو لم يعتقد الخيّاط والحائك والحجام في صنعته ما يوجب ميله إليها، لتركها وأقبل الكل على أشرف الصنائع، ولبطلت كثرة الصنائع. فإن رحمة الله غفلتهم بوجه من الوجوه. وعليه حمل بعضهم قوله عليه السلام: " اختلاف أمتي رحمة " ، يعني اختلاف هممهم، ولو عرف الكنّاس ما في صناعته لتركها، ولاضطر العلماء والخلفاء والأولياء أن يتولوها بأنفسهم. وكذلك الدباغة والحدادة والزراعة، وجميع الأمور فلولا أن الله تعالى حبّب علم الفقه والنحو ومخارج الحروف والطب والفقه في قلوب طوائف، لبقيت هذه العلوم معطّلة، ولتشوش النظام الكلي، وليس من شرط المتجرد لعلم أو صناعة أن يتطلع على قدر رتبته ونسبته إلى من فوقه. بل إلى من تحته. وإنما المطّلع على حملة مراتب العلوم هم المتكفل بالعلوم كلها، وهو الذي آتاه الله الحكمة، وأراه الأشياء على ما هي عليه. فهذا جواب هؤلاء، وإليك الرأي بعد هذا في الاقتصار على ما أنت فيه، أو سلوك طريق هؤلاء والبحث عن هذا الفن، لتعرف حقيقة الحق فيه.
الوظيفة العاشرة: للمتعلم أن يكون قصده في كل ما يتعلمه في الحال كمال نفسه وفضيلتها، وفي الآخرة التقرب إلى الله عز وجل. ولا يكون قصده الرئاسة والمال، ومباهاة السفهاء، ومماراة العلماء، فقد قال عليه السلام: " من تعلم العلم ليباهي به السفهاء ويماري به العلماء دخل النار " ، وقد سبق أن العلوم لها منازل في الوصول بها إلى الله عز وجل، والقوّام بتلك العلوم كحفظة الرباطات في طريق الجهاد. فإذا عرف كل أحد رتبته ووفّاه حقه وقصد به وجه الله تعالى، لم يضع أجره، فإن الله يرفعه بقدر علمه في الدنيا والآخرة. وقال تعالى: (يّرْفَعُ اللهُ الذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ)، وقال: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله). ولا ينبغي أن يفتر رأيك في العلوم بما حكيناه من طريق الصوفية، فإنهم لا يعتقدون حقارة العلوم، بل يعتقد كل مسلم حرمتها وعظمتها. وما ذكروه، إنما أوردوه بالإضافة إلى مرتبة الأولياء والأنبياء، وذلك جار مجرى استحقارك الصيارفة عند قياسهم بالسلاطين والوزراء. وذلك لا يوجب نقيصتهم، مهما قستهم بالكناسين والدباغين، ولا تطالب من نزل عن الرتبة القصوى لسقاطة القدر بها، فإن الرتبة القصوى للأنبياء، ثم للأولياء، ثم للعلماء، على تفاوت مراتبهم، ثم للصالحين في الأعمال. وبالجملة (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ يَرَه). ومن قصد التقرب إلى الله بالعلوم، نفعه الله ورفعه لا محالة.
فهذه هي الوظائف للمتعلم.
 وأما وظائف المعلم المرشد فهي ثمان. واعلم قبل كل شيء أن للإنسان في العلم أربعة أحوال، كما في اقتناء الأموال، إذ لصاحب المال حال استفادة، فيكون مكتسباً، وحال ادخار لما اكتسبه، فيكون به غنياً عن السؤال، وحال انفاق على نفسه، فيكون منتفعاً، وحال إفادته غيره بالإنفاق، فيكون به سخياً متفضلاً، وهو أشرف أحواله، فمن أصاب علماً فاستفاد وأفاد، كان كالشمس تضيء لنفسها ولغيرها، وهي مضيئة، مستغن عن السؤال، وحال استبصار وهو تفكّره في المحصّل، وحال تبصير وتعليم، وهو أشرف أحواله، فكذلك العلم كالمال، ولصاحبه استبصار وهو تفكيره في المحصل، وحال تبصير وتعليم وهو أشرف أحواله. فمن أصاب علماً فاستفاده وأفاد كان كالشمس تضيء لنفسها ولغيرها، وهي مضيئة، والمسك الذي يطيب وهو طيب، ومن أفاد غيره ولم ينتفع به، فهو كالدفتر يفيد غيره، وهو خال عنه، وكالمسنّ يشحذ غيره يقطع، أو كذبالة المصباح تضيء غيرها وهو تحترق.
فأول وظائف المعلم أن يجري المتعلم منه مجرى بنيه، كما قال عليه السلام: " إنما أنا لكم مثل الوالد لولده "  وليعتقد المتعلم أن حق المعلم أكبر من حق الأب، فإنه سبب حياته الباقية، والأب سبب حياته الفانية، وكذلك قال الإسكندر، لما قيل له: أمعلمك أكرم عليك أم أبوك؟ فقال: " بل معلمي " . وكما أن من حق بني الأب الواحد أن يتحابّوا ولا يتباغضوا، فكذلك حق بني المعلم، بل حق بني الدين الواحد. فإن العلماء كلهم مسافرون إلى الله تعالى، وسالكون إليه الطريق. في الطريق يوجب تأكد المودة، فأخوة الفضيلة فوق أخوة الولادة. وإنما منشأ التباغض إرادتهم بالعلم المال الرياسة، فيخرجون به عن سلوك سبيل الله، ويخرجون عن قوله تعالى: (إنّما المُؤْمنونَ إخْوَة)، ويدخلون تحت قوله: (الأخِلاّءُ يَومَئذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إلا المتّقِين).
الوظيفة الثانية: أن يقتدي بصاحب الشرع، فلا يطلب على إفادة العلم أجراً وجزاء. قال تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْرَاً). فإن من يطلب المال وأغراض الدنيا بالعلم، كمن نظف أسفل مداسه بوجهه ومحاسنه، فجعل المخدوم خادماً، إذ خلق الله الملابس والمطاعم خادمة للبدن، وخلق البدن مركباً، وخادماً للنفس، وجعل النفس خادمة للعلم. فالعلم مخدوم ليس بخادم، والمال خادم ليس بمخدوم. ولا معنى للضلال إلا عكس هذا الأمر. والعجب أن الأمر قد انتهى بحكم تراجع الزمان، وخلوّ الأعصار عن علماء الدين، إلى أن صار المتعلم يقلّد معلمه ليستفيد منه، ويجلي بين يديه ويطمع في أغراض دنيوية، عوضاً عن استفادته، وهذا غاية الانتكاس ومنشأ ذلك طلب المعلمين الرياسة، والتجمل بكثرة المستفيدين، لقصور علمهم وعدم ابتهاجهم بكمال علومهم الذاتية، فأطمع ذلك المستفيدين منهم فيهم.
الوظيفة الثالثة: ألا يدخر شيئاً من نصح المتعلم وزجره عن الأخلاق الردية، بالتعريض والتصريح، ومنعه أن يتشوق إلى رتبة فوق استحقاقه، وأن يتصدى لاشتغال فوق طاقته، وأن ينبهه على غاية العلوم، وإنما هي السعادة الآخروية دون أغراض الدنيا. فإن رأى من لا يتعلم إلا لأجل طلب الرياسة، ومباهاة العلماء، لم يزجره عن التعلّم. فاشغاله بالتعلم مع هذا القصد خير من لأعراض، فإنه مهما اكتسب العلم تنبّه بالآخرة لحقائق الأمور. وأن الطالب بالعلم لأغراض الدنيا منغبون، وقد بيّن العلماء هذا المعنى بقولهم: " تعلمنا العلم لغير الله، فأبى العلم أن يكون إلا لله " . بل أقول: إن كان الناس لا يرغبون في تعلم العلم لله، فينبغي أن يدعوهم إلى نوع من العلم يستفاد به الياسة بالأطماع في الرياسة، حتى يستدرجهم بعد ذلك إلى الحق. ولهذا رؤي الرخصة في علم المناظرة في الفقهيات، لأنها بواعث على المواظبة لطلب المباهاة أولاً، ثم بالآخرة، يتنبه لفساد قصده، ويعدلك عنه إلى التعلم بالأطماع في الرياسة إنا نطمعه فيه بالصولجان، وشراء الطيور، وأسباب اللعب، ونطلق له ذلك في بعض الأوقات، لتنبعث دواعيه إلى التعلم ابتداءً طمعاً فيما رعيناه آخراً تدريجياً، وقد جعل الله تعالى قصد الرياسة من تعلّم العلم حفظاً للشرع والعلم.
ويجري تحريض المتعلمين على العلم بالأطماع في الرياسة وحسن الذكر مجرى الحب يبث حوالي القمح والملواح المقيد على الشبكة ومجرى شهوة الغذاء والنكاح التي خلقهما الله داعية إلى الفعل الذي فيه بقاء الشخص والنوع، ولولا هذه المصلحة في المناظرة، لما كان يجوز أن يسمح فيها بحال من الأحوال، فإنها ليست تفضي إلى تغيير المذاهب، وترك المعتقد.
الوظيفة الرابعة: إنه ينبغي أن ينهي عما يجب النهي عنه، بالتعريض لا بالتصريح، لأن التعريض يؤثر في الزجر، والتصريح بالزجر مما يغري بالمنهى عنه. قال عليه السلام: " لو نهي الناس عن فت البعر لفتوه، وقالوا ما نهينا عنه إلا وفيه شيء " . وينبه على هذا قصة آدم وحواء وما نهيا عنه. وقد قيل: رب تعريض أبلغ من تصريح. وذلك أن النفوس الفاضلة لميلها إلى الاستنباط والتنبه للخفيات، تميل إلى التعريض شغفاً باستخراج معناه بالفكر. والتعريض لا يهتك حجاب الهيبة، والتصريح يرفعه بالكلية، فيستفيد المنهي جراءة على المخالفة إذا اضطر إلى المخالفة مرة أخرى.
الوظيفة الخامسة:إن المتكفل ببعض العلوم، لا ينبغي له أن يقبح في نفس المتعلم العلم الذي ليس بين يديه، كما جرت عادة معلمي اللغة من تقبيح الفقه، عند المتعلمين وزجرهم عنه، وعادة الفقهاء من تقبيح العلوم العقلية والزجر عنها، بل ينبّه على قدر العلم الذي فوقه ليشتغل به عند استكمال ما هو بصدده. وإن كان متكفلاً بعلمين مترتبين، فإذا فرغ من أحدهما رقي المتعلم إلى الثاني وراعى فيه التدريج.
الوظيفة السادسة: أن يقتصر بالمتعلمين على قدر إفهامهم، فلا يرقّيهم إلى الدقيق من الجلي، وإلى الخفي من الظاهر، هجوماً وفي أول رتبة، ولكن على قدر الاستعداد، اقتداء بمعلم البشر كافة ومرشدهم حيث قال: " إنّا معشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، ونكلم الناس بقدر عقولهم " . وقال: " ما أحد يحدث قوماً حديثاً لا يبلغه عقولهم، إلا كان ذلك فتنة على بعضهم " . وقال: علي رضي الله عنه، وقد أومأ إلى صدره: " إن ههنا لعلوماً جمة، لو وجدت لها حملة " . وقال عليه السلام: " كلموا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله " ، وقال تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهم خَيْرَاً لأَسْمَعَهُمْ). وسئل بعض المحققين عن شيء فأعرض، فقال السائل: أما سمعت قول رسول الله عليه السلام: " من كتم علماً نافعاً، جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار " ، فقال: اترك اللجام واذهب فإن جاء من يفقه فكتكته فليلجمني به. ولما قال تعالى: (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءِ أَمْوَالَكُمُ)، نبّه على أن حفظ العلم وإمساكه عمن يفسده العلم أولى. ولما قال تعالى: (فَإنْ آنَسْتُم مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُم) نبّه على أن من بلغ رشده في العلم، ينبغي أن يبث إليه حقائق العلوم، ويرقى من الجلي الظاهر، إلى الدقيق الخفي الباطن، فليس الظلم في منع المستحق، بأقل من الظلم في إعطاء غير المستحق. وقال المتقدم في مثل ذلك:
فَمَنْ مَنَحَ الجهّال علماً أضَاعَهُ ... وَمَنْ مَنَعَ المسْتَوجِبِين فَقَدْ ظَلَمْ
وادخار حقائق العلوم عن المستحق لها فاحشة عظيمة. قال الله تعالى: (وَإذْ أَخَذَ اللهُ مِثَاقَ الذِينَ أُوتوا الكِتَابَ لتُبَيّنّنَهُ للنّاس وَلاَ تَكْتُمُون).
الوظيفة السابعة: إن المتعل القاصر ينبغي أن يذكر له ما يحتمله فهمه، ولا يذكر له أن ما وراء ما ذكرت ذلك تحقيقاً وتدقيقاً أدخره عنك، فإن ذلك يفتر رأيه في تلقف ما ألقي إليه، بل يخيل إليه أنه كل المقصود، حتى إذا استقل به رقي إلى غيره بالتدريج. ومن هذا يعلم أن تقيّد من العوام بقيد الشرع، واعتقد الظاهر وحسن حاله في السيرة، فلا ينبغي أن يشوش عليه اعتقاده وينبّه على تأويلات الظواهر. فإن ذلك يؤدي إلى أن ينحلّ عنه قيد الشرع، ثم لا يمكن أن يقيّد بتحقيق الخواص فيرتفع السد الذي بينه وبين الشرور، فينقلب شيطاناً وشريراً، بل ينبغي أن يرشد إلى علم العبادات الظاهرة، والأمانة في الصناعة، التي هو بصددها، وأن يملأ نفسه من الرغبة والرهبة على الوجه الذي نطق به القرآن، وأن لا يولّد شبهة، فإن تولدت شبهة وتشوقت نفسه إلى حلها، فيعالج دفع شبهته بما يقنع به من كلام عامي، وإن لم يكن على حقائق الأدلة. ولا ينبغي أن يفتح له باب البحث والطلب، فإنه يعطل عليه الصناعة التي بها تعمر الأرض وينتفع الخلق. ثم يقصر عن درك العلوم، فإن وجد ذكياً مستعداً لقبول الحقائق العقلية، جاز أن يساعده على التعليم، إلى أن تنحل له الشبهات، وقد حكي عن بعض الأمم السالفة أنهم كانوا يختبرون المتعلم مدة في أخلاقه، فإن وجدوا فيه خلقاً ردّياً منعوه التعلم أشد المنع. وقالوا إنه يستعين بالعلم على مقتضى الخلق الردي، فيصير العلم آلة شرّ في حقه، وإن وجدوه مهذب الأخلاق قيدوه في دار العلم، وعلّموه وما أطلقوه قبل الاستكمال، خيفة أن يقتصر على البعض، ولا تكمل نفسه، فيفسد به دينه ودين غيره، وبهذا الاختبار قيل: " نعوذ بالله من نصف متكلم ونصف طبيب. فذلك يفسد الدين وهذا يفسد الحياة الدنيا " .
الوظيفة الثامنة: أن يكون المعلم للعلم العملي، أعني الشرعيات، عاملاً بما يعلمه، فلا يكذّب مقاله بحاله، فينفر الناس عن الاسترشاد والرشد. وذلك أن العمل مدرك بالبصر، والعلم بالبصيرة، وأصحاب الأبصار أكثر من أرباب البصائر. فليكن عنايته بتزكية أعماله أكثر منه بتحسين علمه ونشره. وكل طبيب تناول شيئاً وزجر الناس عنه، وقال: " لا تتناولوه فإنه سمّ " ، يحمل على الهزؤ والسفه. وإنما هو الذي اعتقد فيه أنه أنفع الأشياء يريد أن يستأثر به، فينقلب النهي إغراء وتحريضاً. والمتعظ من الواعظ يجري مجرى الطين من النقش، والظل من العود، وكيف ينتقش الطين بما لا نقش فيه، وكيف يستوي الظل، والعود أعوج؟ ولذلك قيل:
لاَ تَنْه عَنْ خُلْقٍ وَتَأت مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيم
بل قال الله تعالى: (أَتَأْمُرونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَونَ أَنْفُسَكُمْ). ولذلك قيل: وزر العالم في معاصيه أكثر من وزر غيره، لأنه يقتدى به، فيحمل أوزاراً مع أوزاره. كما قال عليه السلام: " من سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " . فعلى كل عاص في كل معصية وظيفة واحدة، وهو تركها وترك الاظهار، كي لا يتبعه الناس، فإذا أظهر فقد ترك واجبين، وإن أخفى فقد ترك أحد الواجبين. ولذلك قال علي رضي الله عنه: " قصم ظهري رجلان، جاهل متنسك، وعالم متهتك، فالجاهل يغر الناس بنسكه والعالم يغرهم بتهتكه " .

Tidak ada komentar:

Posting Komentar